الجمعة، 13 أبريل 2018

صوت من زمن آخر: في ظلال الهدي النبوي

يوم آخر في زحام قاهرة المعز المدينة الصاخبة التي يمكنك أن تكرهها كالجحيم لكنك تعود إليها ثانية مرغما أو مفتقدا أشياء لا تستطيع أن تحددها، فتتظاهر بأنك مرغما هربا من التفكير في علاقتك المعقدة بالمدينة العجوز.رحلة أخرى طويلة من طرف المدينة لجانبها الآخر، رحلة تكفي للتفكير في الحياة ومساراتها المعقدة وضغوطها وكل تلك الأشياء، المزيد من التفكير الذي لا ينتهي.
سيل الأفكار المتدفق يقطعه صوت خافت رخيم ينبعث من راديو السيارة، " في ظلال الهدي النبوي، اللهم صلي على سيدنا محمد..."، ابتسم فهذا الصوت ينتمي لزمن آخر، زمن يجلس فيه جدي على فراشه بعد ان انتهى من ارتشاف كوب الشاي الصباحي يستمع لإذاعة القرآن الكريم في بداية يومه، بينما الطفل الصغير الذي كنت يستعد للذهاب للمدرسة فتخترق أذنيه الكلمات الرخيمة فتبث في روحه الكثير من الدفء لازال يشعر به بعد خمسة عشر عاما كلما استمع للصوت الرخيم التي يعقبها صوت أحمد عمر هاشم الذي لم يستطع الفتى أن يكرهه أبدا رغم أنه كان جزء من الرموز التي تهاوت في سنوات ما بعد يناير الدامية.
أطلب من أبي أن يرفع صوت المذياع قليلا وأفكر انني أحيانا كثيرة كنت أتمني لو أن جدي ظل حيا وأنا أكثر نضجا، كنت سأجلس على طرف سريره لأستمع لحكاياته المثيرة دون ملل، فالريس "عبدالله" الذي بدأ حياته في العمل على سطح المراكب النيلية ثم ذهب إلى ليبيا وانتهى به المطاف ليستقر في القاهرة تاركا بلادنا الطيبة الدافئة في أقصى الجنوب كان يملك الكثير ليحكيه، وأنا المهندس الذي قضي جل سنوات عمره يعبث بالأرقام الجافة والمسائل الحسابية المعقدة أصبحت أكثر شغفا بحكايات الجدود الدافئة و حكاوي البشر الحميمية التي تدهشني.
ينتهي البرنامج ويرتفع الصوت الرخيم ثانية فانتقل لزمن آخر يفصله عن الزمن الأول سنوات قليلة، زمنا أستيقظ من النوم فيه للذهاب للسعيدية بينما يخترق الصوت الرخيم أذني، أجد أبي مستيقظا كعادته باكرا يستعد للذهاب لعمله بعد أن تناول إفطاره، ابتسم في سري فرحا لعودته للقاهرة ثانية بعد رحلة طويلة كان بها بأسيوط أو اسكندرية أو ايا من تلك المدن الكثيرة التي نُقل إليها في تلك الأيام الغابرة التي كافح فيها من أجلنا كثيرا!
يرتفع صوت الشعراوي فأعود للحاضر مبتسما وانظر لوجه أبي المنهمك في السواقة الذي لا يلاحظني فأشعر بالسكينة تملأ روحي و استعد للهبوط لبدء يوم آخر في القاهرة العجوز.



*مقدمة برنامج " في ظلال الهدي النبوي" المشار إليه